الاختراقات الأمنية في إيران والساحات العربية- دروس وعِبر

المؤلف: أحمد الشيخ08.27.2025
الاختراقات الأمنية في إيران والساحات العربية- دروس وعِبر

لم يكن الهجوم الجوي الأميركي على المواقع النووية الإيرانية مفاجئًا للمراقبين ذوي الفطنة. خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في أعقاب الهجوم، أوضح وزير الدفاع الأميركي أن العملية استغرقت شهورًا عديدة من التخطيط والإعداد الدقيقين. هذا يشير إلى أن قرار الهجوم كان قد اتخذ حتى قبل عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض. الغارات الجوية الإسرائيلية على إيران، التي سبقت الهجوم بفترة وجيزة، كانت بمثابة تمهيد ضروري ودك مكثف للأهداف الإيرانية، وقد حظيت بموافقة ودعم كاملين من واشنطن، بل يمكن القول إنها كانت بتوجيه منها. الهدف من ذلك كان تجنب أي إخفاقات قد تضر بترامب، على غرار ما حدث مع الرئيس الراحل جيمي كارتر إثر فشل عملية "مخلب النسر" في صحراء لوط الإيرانية، التي أطلقها كارتر لتحرير الرهائن المحتجزين في السفارة الأميركية في طهران في أبريل عام 1980.

بعد إعلان وقف إطلاق النار، يثور التساؤل: هل سيصمد هذا الهدوء الهش؟ أم أن واشنطن وحلفاءها الغربيين سيفرضون على إيران مطالب جديدة، تصل إلى حد الاستسلام والاذعان؟ وأول هذه المطالب قد يكون التراجع عن قرار وقف عمليات التفتيش على المنشآت النووية، وهو القرار الذي أعلنه مجلس الشورى الإيراني كمشروع قانون، والذي رفضت الوكالة الدولية للطاقة الذرية القبول به.

قد تكون هذه الخطوة بمثابة الذريعة لمطالب أخرى أكثر تشددًا، ربما تصل إلى حد المطالبة بتسليم البرنامج النووي الإيراني برمته، كما صرح وزير الدفاع البريطاني. وقد يطالبون بتدمير هذا البرنامج من أساسه، بالإضافة إلى تفكيك برنامج الصواريخ الإيرانية.

لا أرغب في الخوض في التكهنات حول النتائج النهائية، فالكثير من الأسئلة تثار في وسائل الإعلام المختلفة، وكل كاتب أو متحدث يجيب وكأنه يمتلك مفاتيح القرار أو الاطلاع الكامل على خفايا الأمور.

لم يعد أحد يكترث بما يحدث في غزة، حيث تُراق الدماء بغزارة أكبر من أي وقت مضى. الجميع منهمك في تحليل تبعات الحرب على إيران، ومعظم ما يتم تداوله ليس إلا تكهنات تفتقر إلى الدقة والموثوقية. وفي خضم هذه التكهنات، غالبًا ما نغفل عن تفاصيل حيوية، لو انتبهنا إليها لاستخلصنا منها دروسًا قيمة، سنكون نحن العرب والمسلمين في أمس الحاجة إليها في المستقبل القريب والبعيد، حتى لا نُفاجأ على حين غرة بصدمات إسرائيلية-غربية مباغتة.

الاختراق الأمني الاستخباراتي

دعت إيران مواطنيها الذين تعاونوا مع جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد" إلى تسليم طائراتهم وأجهزتهم المستخدمة في استهداف المواقع في طهران ومدن أخرى، مقابل الحصول على العفو.

كما أعلنت مرارًا وتكرارًا عن اعتقال المئات من هؤلاء الجواسيس، وكشفت عن شاحنة كانت تحمل شحنة من هذه الطائرات المسيرة في طهران. بل ذكرت أنباء أن بعض العسكريين والعلماء الذين تم اغتيالهم، قتلوا برصاص الجواسيس في منازلهم أو أماكن عملهم، في حين تواصل إسرائيل الإعلان عن اغتيال قادة آخرين.

بالإضافة إلى ذلك، كشفت السلطات الإيرانية عن اكتشاف ورش عمل لتجميع وتصنيع الطائرات المسيرة. قد يبدو هذا الأمر ضربًا من الخيال لولا اعتراف الإيرانيين أنفسهم به!

من الواضح أن هذا الاختراق الأمني استغرق سنوات طويلة من التخطيط الدقيق والإعداد المحكم، لتكوين القاعدة البشرية اللازمة من داخل المجتمع الإيراني ومن داخل أجهزته الأمنية، بالإضافة إلى توفير الأدوات الضرورية وقواعد البيانات والمعلومات. لولا ذلك، ما كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والغربية قادرة على مباغتة القيادات الإيرانية العليا بتلك الاغتيالات الموجعة.

ما الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع؟ قد يؤدي الخوض في الأسباب دون معلومات مؤكدة إلى الانزلاق في دائرة التكهنات، ولكن قد يكون من المفيد استعراض طبيعة العلاقات بين إسرائيل وإيران في عهد الشاه ونظامه الإمبراطوري.

اعترفت إيران بإسرائيل في عام 1953، عقب عودة الشاه إلى الحكم بعد انقلاب "مصدق"، وشهدت العلاقات بين البلدين تطورًا ملحوظًا، خاصة في مجال التعاون الأمني بين جهاز المخابرات الإيرانية آنذاك "السافاك" والموساد الإسرائيلي.

آنذاك، وضع الشاه جميع أوراقه في السلة الأميركية الإسرائيلية، وأصبح الموساد يتمتع بحرية الحركة في جميع أنحاء إيران، حتى أطاحت الثورة بنظام الشاه في عام 1979.

ويبدو أن النظام الجديد في إيران انشغل بشكل كبير بتوسيع نفوذه في المنطقة المحيطة، خدمة لمصالحه السياسية والأيديولوجية والمذهبية، بالإضافة إلى التركيز على الأوضاع الداخلية، والحصار المفروض عليه، والحرب التي ساهمت بعض تصرفاته المعلنة في اندلاعها مع العراق. ونتيجة لذلك، يجد النظام الإيراني اليوم مدنه تحولت إلى ساحة حرب تشنها إسرائيل وعملائها المتواجدين بكثرة داخل إيران.

كما أن التفوق التكنولوجي الإسرائيلي يعتبر عاملًا أساسيًا آخر في تحقيق هذه الاختراقات الأمنية، ليس في إيران فحسب، بل في محيطها الإقليمي أيضًا، وحتى في الدول التي تبعد أكثر من الدول الإسلامية التي تشعر إسرائيل بالقلق تجاهها، مثل باكستان. ولا يستثنى من ذلك سوى تركيا، التي تمتلك جهاز استخبارات متمرسًا قادرًا على منافسة الموساد، بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي المتزايد الذي تحرزه عامًا بعد عام.

ربما يكون النظام الجديد في إيران قد أخطأ عندما تجاهل سقوط العراق، جاره التاريخي والجغرافي، في القبضة الأميركية بعد الإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين، معتقدًا أن تحقيق بعض المكاسب الطائفية يصب في مصلحته أكثر من إبعاد "الشيطان الأكبر"، كما كان يصف أميركا، عن حدود إيران. واليوم، أصبح المجال الجوي العراقي مفتوحًا أمام الطائرات الإسرائيلية، وكأنه لا توجد دولة ذات سيادة في العراق قادرة على الاعتراض.

على الرغم من كل ذلك، لا يمكننا إنكار أن إيران استعادت توازنها بعد اليومين الأولين من الحرب، وردت على إسرائيل بضربات موجعة مماثلة لتلك التي تلقتها. وستظل صور الدمار في تل أبيب ماثلة في الأذهان، باعتبارها المرة الأولى التي تمتلئ فيها شوارع المدينة وغيرها من التجمعات الاستيطانية بالأنقاض والخراب. لم تسجل عدسات الكاميرات مثل هذه المناظر في أي من الحروب العربية السابقة. فكيف للمهزوم، حتى قبل بدء الحرب، أن يفعل ما فعلته صواريخ إيران؟!

ماذا عن الساحات العربية؟

هل تختلف ساحاتنا العربية عن الساحة الإيرانية في عهد الشاه وما بعده؟ ألم تضع الدول العربية تقريبًا جميع أوراقها في السلة الأميركية الغربية منذ عهد الشاه وحتى يومنا هذا؟ لا يمكن لأحد أن ينكر أن أجهزة الاستخبارات العربية تنسق بشكل كامل مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية "السي آي إيه"، وتتلقى منها الأوامر والتعليمات.

إذن، فساحاتنا مفتوحة على مصراعيها أمام الأميركيين، وبالتالي أمام الموساد بالضرورة، من خلال التنسيق الاستخباراتي والعملياتي، خاصة بعد أن أزالت الدول العربية كافة الحواجز المادية والنفسية، واعترفت بإسرائيل وأقامت معها علاقات تكامل أمني واقتصادي وسياسي، بدأت تمتد إلى البعد الاجتماعي. أصبحنا نرى عربًا يتنصلون من هويتهم وانتمائهم، وينحازون إلى إسرائيل ويسارعون إلى مساعدتها إذا ما ضُيقت عليها السبل.

يكمن الفرق بين ساحاتنا والساحة الإيرانية في أن الأخيرة قد ثارت على إرث الشاه، ولكنها لم تقم بتطهيره بشكل كامل، لتجد نفسها اليوم مخترقة أمنيًا بشكل غير مسبوق.

أما ساحاتنا، فهي على حالها منذ نشأة الدولة العربية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. اليوم، لا يحتاج الموساد ولا "السي آي إيه" إلى بذل مجهود كبير في ساحاتنا، لأن نظيراتهما لدينا تقوم بالمهمة على أكمل وجه، ولأن بعض بلداننا تعتمد في مرافقها الاقتصادية على عمالة وافدة من دول تتعاون أجهزة استخباراتها تعاونًا وثيقًا مع الموساد الإسرائيلي.

الاطمئنان للعلاقة مع أميركا والغرب

قد يجادل البعض بأن العلاقات التاريخية الوثيقة بين معظم بلداننا وبين أميركا ودول الغرب تختلف عن علاقة إيران بتلك الدول، وبالتالي يمكننا الاطمئنان الدائم إلى المستقبل.

لكن التاريخ وتقلباته ينبئان بغير ذلك. كيف سيكون وضع هذه العلاقات مع الغرب، إذا ما رأت دول عربية، وحتى تلك التي أقامت علاقات كاملة مع إسرائيل، في لحظة حاسمة من الزمن، أن مصالحها ومستقبلها يتطلبان تطوير برنامج صاروخي مماثل للبرنامج الصاروخي الإيراني، ولا أقول برنامجًا نوويًا كالبرنامج الإيراني، لأن الخيال لا يتقبل حدوث هذا من الدول العربية المطبعة. هل ستقبل إسرائيل بذلك وتسمح به، ومعها الغرب بأكمله؟

وينطبق الأمر نفسه على الدول المسلمة الأخرى. هل سيُسمح لتركيا يومًا بتطوير سلاح نووي، على الرغم من أنها عضو في حلف شمال الأطلسي، وأن تاريخ علاقاتها العسكرية مع الغرب كان حافلًا بالثقة حتى وقت قريب؟ اليوم، أصبحت تركيا وباكستان، أكثر من أي وقت مضى، هدفًا لحملات إعلامية غربية تحرض عليهما وتحذر من التعاون القائم بين البلدين في المجال النووي.

هذا ليس بالأمر الجديد، فقد صرح نتنياهو في مقابلة مع القناة الرابعة عشرة البريطانية في عام 2011 بأن النظامين في تركيا وباكستان يهددان وجود إسرائيل، كما هو الحال مع إيران، وأنه يجب التصدي لهما من أجل هندسة الشرق الأوسط بالشكل الذي يريده نتنياهو.

حتى لا يكون مصيرنا كمصير مُجير أم عامر!

تعرفون أيها العرب المطمئنون للغرب فطبعتم مع إسرائيل، تعرفون قصة ذلك الأعرابي الذي أجار أم عامر (الضبع) فبقرت بطنه فقال الشاعر:

ومنْ يصنع المعروفَ في غير أهله.. يلاقي الذي لاقَـى مجيرُ أمِّ عامرِ.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة